فصل: فَصْلٌ: (الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ‏.‏

وَهِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ‏.‏ وَهِيَ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الرِّضَا وَزِيَادَةٌ‏.‏ فَالرِّضَا مُنْدَرِجٌ فِي الشُّكْرِ‏.‏ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشُّكْرِ بِدُونِهِ‏.‏

وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَالْإِيمَانُ نِصْفَانِ‏:‏ نِصْفٌ شُكْرٌ‏.‏ وَنِصْفٌ صَبْرٌ‏.‏

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ‏.‏ وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ‏.‏ وَوَصَفَ بِهِ خَوَاصَّ خَلْقِهِ‏.‏ وَجَعَلَهُ غَايَةَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ‏.‏ وَوَعَدَ أَهْلَهُ بِأَحْسَنِ جَزَائِهِ‏.‏ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ‏.‏ وَحَارِسًا وَحَافِظًا لِنِعْمَتِهِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهُ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِآيَاتِهِ‏.‏ وَاشْتَقَّ لَهُمُ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الشَّكُورُ وَهُوَ يُوَصِلُ الشَّاكِرَ إِلَى مَشْكُورِهِ بَلْ يُعِيدُ الشَّاكِرَ مَشْكُورًا‏.‏ وَهُوَ غَايَةُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ‏.‏ وَأَهْلُهُ هُمُ الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِهِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ‏}‏ وقال عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ‏}‏ وقال عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لِأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏‏.‏

وَسَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا وَشَكُورًا وَسَمَّى الشَّاكِرِينَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ‏.‏ فَأَعْطَاهُمْ مِنْ وَصْفِهِ‏.‏ وَسَمَّاهُمْ بِاسْمِهِ‏.‏ وَحَسْبُكَ بِهَذَا مَحَبَّةً لِلشَّاكِرِينَ وَفَضْلًا‏.‏

وَإِعَادَتُهُ لِلشَّاكِرِ مَشْكُورًا‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا‏}‏وَرِضَا الرَّبِّ عَنْ عَبْدِهِ بِهِ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ وَقِلَّةُ أَهْلِهِ فِي الْعَالَمِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ خَوَاصُّهُ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ‏.‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا‏؟‏‏.‏

وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَاللَّهِ يَا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ‏.‏ فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ‏.‏

وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ‏.‏ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ‏.‏ وَامَكْرُ لِي وَلَا تَمْكُرْ بِي‏.‏ وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي‏.‏ وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ‏.‏ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مُطَاوِعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا‏.‏ رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي‏.‏ وَاغْسِلْ حَوْبَتِي‏.‏ وَأَجِبْ دَعْوَتِي‏.‏ وَثَبِّتْ حُجَّتِي‏.‏ وَاهْدِ قَلْبِي‏.‏ وَسَدِّدْ لِسَانِي‏.‏ وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏أَصْلُ الشُّكْرِ فِي اللُّغَةِ‏]‏

وَأَصْلُ الشُّكْرِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ‏:‏ ظُهُورُ أَثَرِ الْغِذَاءِ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ ظُهُورًا بَيِّنًا‏.‏ يُقَالُ‏:‏ شَكِرَتِ الدَّابَّةُ تَشْكَرُ شَكَرًا عَلَى وَزْنِ سَمِنَتْ تَسْمَنُ سِمَنًا‏:‏ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا أَثَرُ الْعَلَفِ، وَدَابَّةٌ شَكُورٌ‏:‏ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تَأْكُلُ وَتُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَتَّى إِنَّ الدَّوَابَّ لَتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ أَيْ لَتَسَمَنُ مِنْ كَثْرَةِ مَا تَأْكُلُ مِنْهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ الشُّكْرُ‏.‏ وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ‏:‏ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا‏.‏ وَعَلَى قَلْبِهِ‏:‏ شُهُودًا وَمَحَبَّةً‏.‏ وَعَلَى جَوَارِحِهِ‏:‏ انْقِيَادًا وَطَاعَةً‏.‏

وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ‏:‏ خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ‏.‏ وَحُبُّهُ لَهُ‏.‏ وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ‏.‏ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا‏.‏ وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ‏.‏

فَهَذِهِ الْخَمْسُ‏:‏ هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ‏.‏ وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا‏.‏ فَمَتَى عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةً‏:‏ اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ قَاعِدَةٌ‏.‏

وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الشُّكْرِ وَحْدَهُ، فَكَلَامُهُ إِلَيْهَا يَرْجِعُ‏.‏ وَعَلَيْهَا يَدُورُ‏.‏

فَقِيلَ‏:‏ حَدُّهُ الِاعْتِرَافُ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِذِكْرِ إِحْسَانِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى مَحَبَّةِ النِّعَمِ، وَالْجَوَارِحِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَجَرَيَانُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ مُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ‏.‏ وَحِفْظُ الْحُرْمَةِ‏.‏

وَمَا أَلْطَفَ مَا قَالَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ‏:‏ شُكْرُ النِّعْمَةِ أَنْ تَرَى نَفْسَكَ فِيهَا طُفَيْلِيًّا‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ‏:‏ الشُّكْرُ مَعْرِفَةُ الْعَجْزِ عَنِ الشُّكْرِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الشُّكْرُ مَعْنَاهُ إِضَافَةُ النِّعَمِ إِلَى مُولِيهَا بِنَعْتِ الِاسْتِكَانَةِ لَهُ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ الشُّكْرُ أَنْ لَا تَرَى نَفْسَكَ أَهْلًا لِلنِّعْمَةِ‏.‏

هَذَا مَعْنَى قَوْلِ حَمْدُونَ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا طُفَيْلِيًّا‏.‏

وَقَالَ رُوَيْمٌ‏:‏ الشُّكْرُ اسْتِفْرَاغُ الطَّاقَةِ‏.‏

وَقَالَ الشِّبْلِيُّ‏:‏ الشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْمُنْعِمِ لَا رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَفْنَى بِرُؤْيَةِ الْمُنْعِمِ عَنْ رُؤْيَةِ نِعَمِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ لَا تَحْجُبَهُ رُؤْيَةُ نِعَمِهِ وَمُشَاهَدَتُهَا عَنْ رُؤْيَةِ الْمُنْعِمِ بِهَا‏.‏ وَهَذَا أَكْمَلُ‏.‏ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى عِنْدَهُمْ‏.‏

وَالْكَمَالُ‏:‏ أَنْ تَشْهَدَ النِّعْمَةَ وَالْمُنْعِمَ‏.‏ لِأَنَّ شُكْرَهُ بِحَسَبِ شُهُودِ النِّعْمَةِ‏.‏ فَكُلَّمَا كَانَ أَتَمَّ كَانَ الشُّكْرُ أَكْمَلَ‏.‏ وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ نِعَمَهُ، وَيَعْتَرِفَ لَهُ بِهَا‏.‏ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِهَا‏.‏ وَيُحِبُّهُ عَلَيْهَا‏.‏ لَا أَنْ يَفْنَى عَنْهَا‏.‏ وَيَغِيبَ عَنْ شُهُودِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ الْمَوْجُودَةِ، وَصَيْدُ النِّعَمِ الْمَفْقُودَةِ‏.‏

وَشُكْرُ الْعَامَّةِ‏:‏ عَلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، وَقُوتِ الْأَبْدَانِ‏.‏

وَشُكْرُ الْخَاصَّةِ‏:‏ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَقُوتِ الْقُلُوبِ‏.‏

وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ‏؟‏ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنْ عِنْدِكَ تَسْتَوْجِبُ بِهَا شُكْرًا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الْآنَ شَكَرْتَنِي يَا دَاوُدُ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ آخَرَ إِسْرَائِيلِيٍّ‏:‏ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَبِّ، خَلَقْتَ آدَمَ بِيَدِكَ‏.‏ وَنَفَخْتَ فِيهِ مِنْ رُوحِكَ‏.‏ وَأَسْجَدْتَ لَهُ مَلَائِكَتَكَ‏.‏ وَعَلَّمْتَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ‏.‏ فَكَيْفَ شَكَرَكَ‏؟‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي‏.‏ فَكَانَتْ مَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ شُكْرًا لِي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الشُّكْرُ التَّلَذُّذُ بِثَنَائِهِ، عَلَى مَا لَمْ تَسْتَوْجِبْ مِنْ عَطَائِهِ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ- وَقَدْ سَأَلَهُ سَرِيٌّ عَنِ الشُّكْرِ، وَهُوَ صَبِيٌّ- الشُّكْرُ‏:‏ أَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ مِنْ مُجَالَسَتِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَنْ قَصُرَتْ يَدَاهُ عَنِ الْمُكَافَآتِ فَلْيَطُلْ لِسَانُهُ بِالشُّكْرِ‏.‏

وَالشُّكْرُ مَعَهُ الْمَزِيدُ أَبَدًا‏.‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ‏}‏ فَمَتَى لَمْ تَرَ حَالَكَ فِي مَزِيدٍ‏.‏ فَاسْتَقْبِلِ الشُّكْرَ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ‏:‏ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي‏.‏ إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ‏.‏ أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَنْ كَتَمَ النِّعْمَةَ فَقَدْ كَفَرَهَا‏.‏ وَمَنْ أَظْهَرَهَا وَنَشَرَهَا فَقَدْ شَكَرَهَا‏.‏

وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ‏.‏

وَفِي هَذَا قِيلَ‏:‏

وَمِنَ الرَّزِيَّةِ أَنَّ شُكْرِيَ صَامِتٌ *** عَمَّا فَعَلْتَ وَأَنَّ بِرَّكَ نَاطِقُ

وَأَرَى الصَّنِيعَةَ مِنْكَ ثُمَّ أُسِرُّهَا *** إِنِّي إِذًا لِنَدَى الْكَرِيمِ لَسَارِقُ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ‏]‏

وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ أَيُّهُمَا أَعْلَى وَأَفْضَلُ‏؟‏ وَفِي الْحَدِيثِ الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ، فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا‏:‏ أَنَّ الشُّكْرَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ‏.‏ وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ‏.‏

وَمَعْنَى هَذَا‏:‏ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَبِاللِّسَانِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَبِالْجَوَارِحِ طَاعَةً وَانْقِيَادًا‏.‏ وَمُتَعَلَّقُهُ‏:‏ النِّعَمُ، دُونَ الْأَوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ‏:‏ شَكَرْنَا اللَّهَ عَلَى حَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَلِمْهِ‏.‏ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا‏.‏ كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى إِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ، وَالشُّكْرُ يَكُونُ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالنِّعَمِ‏.‏

فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الشُّكْرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَمْدُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَكُلُّ مَا يَقَعُ بِهِ الْحَمْدُ يَقَعُ بِهِ الشُّكْرُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ‏.‏ فَإِنَّ الشُّكْرَ يَقَعُ بِالْجَوَارِحِ‏.‏ وَالْحَمْدَ يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلشُّكْرِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الشُّكْرُ‏:‏ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ‏.‏ لِأَنَّهَا السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ‏.‏ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ فِي الْقُرْآنِ‏:‏ شُكْرًا‏.‏

فَمَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ‏:‏ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشُّكْرِ‏.‏ لَا أَنَّهَا جُمْلَةُ الشُّكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ‏:‏ أَنَّهُ الِاعْتِرَافُ بِهَا، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْخُضُوعُ لَهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُرْضِيهِ فِيهَا‏.‏ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْرِفَتُهَا رُكْنَ الشُّكْرِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشُّكْرِ بِدُونِهِ‏:‏ جُعِلَ أَحَدُهُمَا اسْمًا لِلْآخَرِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ لِأَنَّهُ السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ النِّعْمَةَ تَوَصَّلَ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ بِهَا‏.‏

وَهَذَا مِنْ جِهَةِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهَا نِعْمَةً، لَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَرَفَهَا بِهَا‏.‏ وَمَتَى عَرَفَ الْمُنْعِمَ أَحَبَّهُ‏.‏ وَجَدَّ فِي طَلَبِهِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ‏.‏ وَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا أَبْغَضَهَا لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَعَلَى هَذَا‏:‏ يَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ الشُّكْرُ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ‏.‏ مُسْتَلْزِمًا لِمَعْرِفَةِ الْمُنِعِمِ‏.‏ وَمَعْرِفَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّتَهُ‏.‏ وَمَحَبَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَهُ‏.‏

فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَ أَقْسَامِ الشُّكْرِ بِاللَّفْظِ‏.‏ وَنَبَّهَ عَلَى سَائِرِهَا بِاللُّزُومِ‏.‏ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ اخْتِصَارِهِ‏.‏ وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ وَتَصَوُّرِهِ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَمَعَانِي الشُّكْرِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ‏.‏ ثُمَّ قَبُولُ النِّعْمَةِ‏.‏ ثُمَّ الثَّنَاءُ بِهَا‏.‏ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ سُبُلِ الْعَامَّةِ‏.‏

أَمَّا مَعْرِفَتُهَا‏:‏ فَهُوَ إِحْضَارُهَا فِي الذِّهْنِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَتَمْيِيزُهَا‏.‏

فَمَعْرِفَتُهَا‏:‏ تَحْصِيلُهَا ذِهْنًا، كَمَا حَصَلَتْ لَهُ خَارِجًا‏.‏ إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي‏.‏ فَلَا يَصِحُّ مِنْ هَذَا الشُّكْرُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ثُمَّ قَبُولُ النِّعْمَةِ‏.‏

قَبُولُهَا‏:‏ هُوَ تَلَقِّيهَا مِنَ الْمُنْعِمِ بِإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ إِلَيْهَا‏.‏ وَأَنَّ وُصُولَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ، وَلَا بَذْلِ ثَمَنٍ‏.‏ بَلْ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا كَالطُّفَيْلِيِّ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا شَاهِدٌ بِقَبُولِهَا حَقِيقَةً‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ثُمَّ الثَّنَاءُ بِهَا‏.‏

الثَّنَاءُ عَلَى الْمُنْعِمِ، الْمُتَعَلِّقٌ بِالنِّعْمَةِ نَوْعَانِ‏:‏ عَامٌّ، وَخَاصٌّ‏.‏ فَالْعَامُّ‏:‏ وَصْفُهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَسَعَةِ الْعَطَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَالْخَاصُّ‏:‏ التَّحَدُّثُ بِنِعْمَتِهِ، وَالْإِخْبَارُ بِوُصُولِهَا إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏‏.‏

وَفِي هَذَا التَّحْدِيثِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ ذَكَرَ النِّعْمَةَ، وَالْإِخْبَارَ بِهَا‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِكَذَا وَكَذَا‏.‏ قَالَ مُقَاتِلٌ‏:‏ يَعْنِي اشْكُرْ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ‏:‏ مِنْ جَبْرِ الْيُتْمِ، وَالْهُدَى بَعْدَ الضَّلَالِ، وَالْإِغْنَاءِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ‏.‏

وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ‏.‏ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِ بِهِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِي بِهِ فَلْيُثْنِ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ شَكَرَهُ‏.‏ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ‏.‏

فَذَكَرَ أَقْسَامَ الْخَلْقِ الثَّلَاثَةَ‏:‏ شَاكِرُ النِّعْمَةِ الْمُثْنِي بِهَا، وَالْجَاحِدُ لَهَا وَالْكَاتِمُ لَهَا‏.‏ وَالْمُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا‏.‏ فَهُوَ مُتَحَلٍّ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ‏:‏ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ‏.‏ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ‏.‏ وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ‏.‏ وَتَرْكُهُ كُفْرٌ‏.‏ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةٌ عَذَابٌ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ التَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَتَعْلِيمُ الْأُمَّةِ‏.‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ هِيَ النُّبُوَّةُ‏.‏ قَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ أَيْ بَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَحَدِّثْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي آتَاكَ اللَّهُ‏.‏ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ‏:‏ هُوَ الْقُرْآنُ‏.‏ أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ‏.‏

وَالصَّوَابُ‏:‏ أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ‏.‏ إِذْ كَلٌّ مِنْهُمَا نِعْمَةٌ مَأْمُورٌ بِشُكْرِهَا وَالتَّحَدُّثِ بِهَا‏.‏ وَإِظْهَارِهَا مِنْ شُكْرِهَا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ سُبُلِ الْعَامَّةِ‏.‏

يَا لَيْتَ الشَّيْخَ صَانَ كِتَابَهُ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ‏.‏ إِذْ جَعَلَ نِصْفَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَضْعَفِ السُّبُلِ‏.‏

بَلِ الشُّكْرُ سَبِيلُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ- أَخَصِّ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ‏.‏

وَيَا عَجَبًا‏!‏ أَيُّ مَقَامٍ أَرْفَعُ مِنَ الشُّكْرِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، حَتَّى الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا، وَالتَّوَكُّلُ وَغَيْرُهَا‏؟‏ فَإِنَّ الشُّكْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهَا‏.‏ وَتَاللَّهِ لَيْسَ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَأَهْلِ الْقُرْبِ مِنْهُ سَبِيلٌ أَرْفَعَ مِنَ الشُّكْرِ وَلَا أَعْلَى‏.‏ لِأَنَّ الشُّكْرَ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ دَعْوَى‏.‏ وَأَنَّهُ شُكْرُ الْحَقِّ عَلَى إِنْعَامِهِ‏.‏ فَفِي الشَّاكِرِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا رَسْمِهِ‏.‏ لَمْ يَتَخَلَّصْ عَنْهَا، وَيَفْرُغْ مِنْهَا‏.‏ فَلَوْ فَنِيَ عَنْهَا- بِتَحَقُّقِهِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي شَكَرَ نَفْسِهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَمْ يَزَلْ- عُلِمَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ‏.‏ وَلَوْ أَنَّ السُّلْطَانَ كَسَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِهِ‏.‏ فَأَخَذَ يَشْكُرُ السُّلْطَانَ عَلَى ذَلِكَ‏:‏ لَعُدَّ مُخْطِئًا، مُسِيئًا لِلْأَدَبِ‏.‏ فَإِنَّهُ مُدَّعٍ بِذَلِكَ مُكَافَأَةَ السُّلْطَانِ بِشُكْرِهِ‏.‏ فَإِنَّ الشُّكْرَ مُكَافَأَةٌ‏.‏ وَالْعَبْدُ أَصْغَرُ قَدْرًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ‏.‏ وَالشُّهُودُ لِلْحَقِيقَةِ يَقْتَضِي اتِّحَادَ نِسْبَةِ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَرُجُوعَهَا إِلَى وَصْفِ الْمُعْطِي وَقُوَّتِهِ‏.‏ فَالْخَاصَّةُ يَسْقُطُ عِنْدَهُمُ الشُّكْرُ بِالشُّهُودِ، وَفِي حَقِّهِمْ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ‏.‏

هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ‏.‏ وَكَسَوْتُهُ أَحْسَنَ عِبَارَةٍ‏.‏ لِئَلَّا يُتَعَدَّى عَلَيْهِمْ بِسُوءِ التَّعْبِيرِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْفِيرِ‏.‏

وَنَحْنُ مَعَنَا الْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ‏:‏ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ- غَيْرَ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ‏.‏ وَكُلَّ سَبِيلٍ لَا يُوَافِقُ سَبِيلَهُ فَمَهْجُورٌ غَيْرُ مَسْلُوكٍ‏.‏

فَأَمَّا تَضَمُّنُ الشُّكْرِ لِنَوْعِ دَعْوَى‏.‏ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِضَافَةُ الْعَبْدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ بِهِ وَغَابَ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَى عَبْدِهِ‏:‏ فَلَعَمْرُ اللَّهِ هَذِهِ عِلَّةٌ مُؤْثَرَةٌ‏.‏ وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ كَاذِبَةٌ‏.‏

وَإِنْ أُرِيدَ‏:‏ أَنَّ شُهُودَهُ لِشُكْرِهِ شُهُودُهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهِ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُ فِيهِ، وَإِذْنِهِ لَهُ بِهِ، وَمَشِيئَتِهِ عَلَيْهِ وَمِنَّتِهِ‏.‏ فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ وَقِيَامَهُ بِهَا، وَكَوْنَهَا بِاللَّهِ‏.‏ فَأَيُّ دَعْوَى فِي هَذَا‏؟‏ وَأَيُّ عِلَّةٍ‏؟‏‏.‏

نَعَمْ غَايَتُهُ‏:‏ أَنَّهُ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ‏.‏ وَلَا يَخُوضُ تَيَّارَهُ‏.‏ فَكَانَ مَاذَا‏؟‏‏.‏

فَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُ الْفَنَاءَ غَايَةً‏.‏ فَأَوْجَبَ لَكُمْ مَا أَوْجَبَ‏.‏ وَقَدَّمْتُمُوهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏.‏ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ مَا أُخِّرَ، وَتَأْخِيرَ مَا قُدِّمَ‏.‏ وَإِلْغَاءَ مَا اعْتُبِرَ، وَاعْتِبَارَ مَا أُلْغِيَ‏.‏

وَلَوْلَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْكُمْ بِتَحْكِيمِ الرِّسَالَةِ، وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرْعِ لَكَانَ أَمْرًا غَيْرَ هَذَا‏.‏ كَمَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّالِكِينَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ الْخَطِرَةِ‏.‏ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ كَمْ فِيهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ، وَجَرِيحٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ‏؟‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ‏:‏ إِنَّ الشَّاكِرَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا رَسْمِهِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ مَحْضَ الْعُبُودِيَّةِ وَمَرْكَبَهَا، وَالْحَامِلَةَ لَهَا‏:‏ فَأَيُّ نَقْصٍ فِي هَذَا‏؟‏ فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا‏.‏ وَإِنَّمَا تَقُومُ بِهَذَا الرَّسْمِ‏.‏ فَلَا نَقْصَ فِي حَمْلِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالسَّيْرِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

نَعَمِ، النَّقْصُ كُلُّ النَّقْصِ‏:‏ فِي حَمْلِ النَّفْسِ وَالشَّهْوَةِ وَالْحَظِّ الْمُخَالِفِ لِمُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى الدِّينِيِّ عَلَى هَذَا الرَّسْمِ، وَالسَّيْرِ بِهِ إِلَى النَّفْسِ‏.‏ وَلَعَلَّ الْعَامِلَ عَلَى الْفَنَاءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ‏.‏ وَهُوَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ‏.‏ فَالْعَارِفُ يَسْتَقْصِي التَّفْتِيشَ عَنْ كَمَائِنِ النَّفْسِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ‏:‏ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَمْ يَزَلْ‏؟‏ فَهَذَا بِالشَّطْحِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِالْمَعْرِفَةِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَزَلْ إِذَا أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالشُّكْرِ، وَرَضِيَهُ مِنْهُ وَأَحَبَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ، وَاسْتَدْعَاهُ وَاقْتَضَاهُ مِنْهُ، وَأَوْجَبَ لَهُ بِهِ الْمَزِيدَ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَاشْتَقَّ مِنْهُ لَهُ الِاسْمُ، وَأَوْقَعَ عَلَيْهِ بِهِ الْحُكْمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ غَايَةُ رِضَاهُ مِنْهُ‏.‏ وَأَمَرَهُ- مَعَ ذَلِكَ- أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ شُكْرَهُ بِهِ، وَبِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ‏:‏ فَهَذَا شُكْرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَزَلْ‏.‏ وَهُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا ضَرْبُكُمْ مَثَلَ كِسْوَةِ السُّلْطَانِ لِعَبْدِهِ، وَأَخْذِهِ فِي الشُّكْرِ لَهُ مُكَافَأَةً‏:‏ فَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْأَمْثِلَةِ عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً‏.‏ وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي أَوْجَبَ لِمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَا يَجِبُ عَقْلًا، مَا قَالَ ذَلِكَ‏.‏ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ شُكْرَهُ قَبِيحٌ عَقْلًا‏.‏ وَلَوْلَا الشَّرْعُ لَمَا حَسُنَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ‏.‏ وَضَرْبُ هَذَا الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ‏.‏ وَهَذَا مِنَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، الْمُتَضَمِّنِ قِيَاسَ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَبِمِثْلِهِ عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْأَوْثَانُ، إِذْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ‏:‏ جَنَابُ الْعَظِيمِ لَا يُهْجَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ وَسَائِلَ وَوَسَائِطَ‏.‏ وَسَرَتْ هَاتَانِ الرَّقِيقَتَانِ فِيمَنْ فَسَدَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَأَهْلِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ‏.‏ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا‏.‏ تَفُوتُ الْحَصْرَ‏.‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْمَلِكَ مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ إِلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، لَا يَقُومُ مُلْكُهُ إِلَّا بِهِ‏.‏ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مُعَاوَضَةٍ بِتِلْكَ الْكِسْوَةِ- مَثَلًا- خِدْمَةً لَهُ، وَحِفْظًا لَهُ، وَذَبًّا عَنْهُ، وَسَعْيًا فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ‏.‏ فَكِسْوَتُهُ لَهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ‏.‏ فَإِذَا أَخَذَ فِي شُكْرِهِ‏.‏ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَمَنًا لِنِعْمَتِهِ‏.‏ وَلَيْسَ بِثَمَنٍ لَهَا‏.‏

وَأَمَّا إِنْعَامُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ‏:‏ فَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِ، وَمُجَرَّدُ امْتِنَانٍ‏.‏ لَا لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَلَا لِمُعَاوَضَةٍ، وَلَا لِاسْتِعَانَةٍ بِهِ، وَلَا لِيَتَكَثَّرَ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا لِيَتَعَزَّزَ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَا لِيَقْوَى بِهِ مِنْ ضَعْفٍ‏.‏ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ‏.‏

وَأَمْرُهُ لَهُ بِالشُّكْرِ أَيْضًا‏:‏ إِنْعَامٌ آخَرُ عَلَيْهِ‏.‏ وَإِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَيْهِ‏.‏ إِذْ مَنْفَعَةُ الشُّكْرِ تَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ دُنْيَا وَآخِرَةً‏.‏ لَا إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِشُكْرِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ فَشُكْرُ الْعَبْدِ إِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى‏.‏ فَلَا يُذَمُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ مُقَابَلَةَ الْمُنْعِمِ بِهِ‏.‏ وَلَا يَسْتَطِيعُ شُكْرَهُ‏.‏ فَإِنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مُحْسِنٌ إِلَى نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ‏.‏ لَا أَنَّهُ مُكَافِئٌ بِهِ لِنِعَمِ الرَّبِّ‏.‏ فَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُكَافِئَ نِعَمَهُ أَبَدًا، وَلَا أَقَلَّهَا، وَلَا أَدْنَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ، الْخَالِقُ لِلشُّكْرِ وَالشَّاكِرِ، وَمَا يُشْكَرُ عَلَيْهِ‏.‏ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءً عَلَيْهِ‏.‏ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُحْسِنُ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ بِأَنْ أَوْزَعَهُ شُكْرَهَا‏.‏ فَشُكْرُهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ‏.‏ تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ‏.‏ وَهَلُمَّ جَرًّا‏.‏

وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ بِرِّهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ‏:‏ مَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى هَذَا الشُّكْرِ‏.‏ وَرِضَاهُ مِنْهُ بِهِ‏.‏ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَمَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَبْدِ‏.‏ لَا تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ الَّذِي لَا كَرَمَ فَوْقَهُ‏.‏ يُنْعِمُ عَلَيْكَ ثُمَّ يُوزِعُكَ شُكْرَ النِّعْمَةِ، وَيَرْضَى عَنْكَ‏.‏ ثُمَّ يُعِيدُ إِلَيْكَ مَنْفَعَةَ شُكْرِكَ‏.‏ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِتَوَالِي نِعَمِهِ وَاتِّصَالِهِ إِلَيْكَ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا‏.‏

وَهَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ يَكْفِي اللَّبِيبَ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُ الشُّهُودِ يُسْقِطُ الشُّكْرَ‏:‏ فَلَعَمْرُ اللَّهِ، إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمَشْكُورِ بِحَظِّ الشَّاهِدِ‏.‏ نَعَمْ بِحَظٍّ عَظِيمٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، لَا حَظٍّ سُفْلِيٍّ، مُتَعَلِّقٍ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ سَارَ مِنْ حَرَمٍ إِلَى حَرَمٍ‏.‏

وَكَانَ يَقَعُ لِي هَذَا الْقَدَرُ مُنْذُ أَزْمَانٍ‏.‏ وَلَا أَتَجَرَّأُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ‏.‏ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَرَوْنَ مَنْ ذَكَّرَهُمْ بِهِ بِعَيْنِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ‏.‏ فَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ‏.‏ وَرَأَوْا تَخْبِيطَ أَهْلِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَتُلَوُّثَهُمْ بِنُفُوسِهِمْ وَعَوَالِمِهَا‏.‏ وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ‏:‏ أَنْ جَعَلُوهُ غَايَةً، فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا تَرَكَّبَ‏.‏ وَإِذَا لَاحَتِ الْحَقَائِقُ فَلْيَقُلِ الْقَائِلُ مَا شَاءَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى الشُّكْرُ عَلَى الْمَحَابِّ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الدَّرَجَةُ‌‌‌ الْأُولَى‏:‏ الشُّكْرُ عَلَى الْمُحَابِّ‏.‏ وَهَذَا شُكْرٌ تَشَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ‏.‏ وَمِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنْ عَدَّهُ شُكْرًا‏.‏ وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الْمَثُوبَةَ‏.‏

إِذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ وَأَنَّ جُزْءَ حَقِيقَتِهِ‏:‏ الِاسْتِعَانَةُ بِنِعَمِ الْمُنْعِمِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ‏:‏ عَلِمْتَ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ‏.‏ وَأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ‏.‏

نَعَمْ لِغَيْرِهِمْ مِنْهَا بَعْضُ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا، كَالِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا‏.‏ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي نِعَمِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَفَرَّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ‏.‏ فَإِنَّهُ يُضِيفُ نِعْمَتَهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي تَمَامِ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ‏.‏ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى مَرْضَاتِهِ‏.‏ وَقَدْ كَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنَّ أَقَلَّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ‏:‏ أَنْ لَا يَجْعَلَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَبِيلًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ‏.‏

وَقَدْ عُرِفَ مُرَادُ الشَّيْخِ‏.‏ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الشُّكْرَ مُشْتَرَكٌ‏.‏ وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِهِ سُبْحَانَهُ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِهِ مِنْهَا‏.‏ وَهَذَا بِلَا شَكٍّ يُوجِبُ حِفْظَهَا عَلَيْهِمْ وَالْمَزِيدَ مِنْهَا‏.‏ فَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الشُّكْرِ مُشْتَرَكٌ‏.‏ وَقَدْ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ فِي الدُّنْيَا بِعَاجِلِ الثَّوَابِ‏.‏ وَفِي الْآخِرَةِ‏:‏ بِتَخْفِيفِ الْعِقَابِ‏.‏ فَإِنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ فِي الْعُقُوبَةِ مُخْتَلِفَةٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ‏.‏ وَهَذَا مِمَّنْ تَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ‏:‏ إِظْهَارًا لِلرِّضَا‏.‏ وَمِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ‏:‏ لِكَظْمِ الْغَيْظِ، وَسَتْرِ الشَّكْوَى‏.‏ وَرِعَايَةِ الْأَدَبِ‏.‏ وَسَلُوكِ مَسْلَكِ الْعِلْمِ‏.‏ وَهَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏

يَعْنِي أَنْ الشُّكْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ‏:‏ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ‏.‏ وَلِهَذَا كَانَ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ‏.‏ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ‏:‏

إِمَّا رَجُلٌ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَالَاتِ‏:‏ بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْمَكْرُوهُ وَالْمَحْبُوبُ‏.‏ فَشُكْرُ هَذَا‏:‏ إِظْهَارٌ مِنْهُ لِلرِّضَا بِمَا نَزَلَ بِهِ‏.‏ وَهَذَا مَقَامُ الرِّضَا‏.‏

الرَّجُلُ الثَّانِي‏:‏ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ‏.‏ فَهُوَ لَا يُحِبُّ الْمَكْرُوهَ‏.‏ وَلَا يَرْضَى بِنُزُولِهِ بِهِ‏.‏ فَإِذَا نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ شُكْرُهُ كَظْمًا لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى، وَرِعَايَةً مِنْهُ لِلْأَدَبِ، وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ‏.‏ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْأَدَبَ يَأْمُرَانِ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏.‏ فَهُوَ يَسْلُكُ بِهَذَا الشُّكْرِ مَسْلَكَ الْعِلْمِ‏.‏ لِأَنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ، كَحَالِ الَّذِي قَبْلَهُ‏.‏ فَالَّذِي قَبْلَهُ‏:‏ أَرْفَعُ مِنْهُ‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ‏:‏ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمَكَارِهِ- الَّتِي يُقَابِلُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ بِالْجَزَعِ وَالسُّخْطِ، وَأَوْسَاطُهُمْ بِالصَّبْرِ، وَخَاصَّتُهُمْ بِالرِّضَا- فَقَابَلَهَا هُوَ بِأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏ وَهُوَ الشُّكْرُ‏.‏ فَكَانَ أَسْبَقَهُمْ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏ وَأَوَّلَ مَنْ يُدْعَى مِنْهُمْ إِلَيْهَا‏.‏

وَقَسَّمَ أَهْلَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ‏:‏ سَابِقِينَ، وَمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ انْقِسَامِهِمْ إِلَى مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ، مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْبُوبِ، فَلَا يُؤْثَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ‏.‏ بَلْ قَدْ فَنِيَ بِإِيثَارِهِ مَا يَرْضَى لَهُ بِهِ رَبُّهُ عَمَّا يَرْضَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَإِلَى مَنْ يُؤْثِرُ الْمَحْبُوبَ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمَكْرُوهُ قَابَلَهُ بِالشُّكْرِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ‏.‏ فَإِذَا شَهِدَ الْمُنْعِمَ عُبُودِيَّةً‏:‏ اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ‏.‏ وَإِذَا شَهِدَهُ حُبًّا‏:‏ اسْتَحْلَى مِنْهُ الشِّدَّةَ‏.‏ وَإِذَا شَهِدَهُ تَفْرِيدًا‏:‏ لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُ نِعْمَةً، وَلَا شَدَّةً‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ يَسْتَغْرِقُ صَاحِبُهَا بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنِ النِّعْمَةِ‏.‏ فَلَا يَتَّسِعُ شُهُودُهُ لِلْمُنْعِمِ وَلِغَيْرِهِ‏.‏

وَقَسَّمَ أَصْحَابَهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏ أَصْحَابُ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْحُبِّ‏.‏ وَأَصْحَابُ شُهُودِ التَّفْرِيدِ‏.‏ وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا، هُوَ أَوْلَى بِهِ‏.‏

فَأَمَّا شُهُودُهُ عُبُودِيَّةً‏:‏ فَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمِلْكِ لَهُ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا حَضَرُوا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَنْسَوْنَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْقُرْبِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ وَحَقِّهَا، وَمُلَاحَظَتِهِمْ لِسَيِّدِهِمْ، خَوْفًا أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِأَمْرٍ، فَيَجِدَهُمْ غَافِلِينَ عَنْ مُلَاحَظَتِهِ‏.‏ وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْمُلُوكِ وَخَوَاصَّهُمْ‏.‏

فَهَذَا هُوَ شُهُودُ الْعَبْدِ لِلْمُنْعِمِ بِوَصْفِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، وَاسْتِغْرَاقِهِ عَنِ الْإِحْسَانِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ‏.‏

فَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ‏:‏ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ- مَعَ قِيَامِهِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ- يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْغِرَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ سَيِّدِهِ غَايَةَ الِاسْتِصْغَارِ، مَعَ امْتِلَاءِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، فَأَيُّ إِحْسَانٍ نَالَهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ‏.‏ رَآهُ عَظِيمًا‏.‏ وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهَذَا فِي حَالِ الْمُحِبِّ الْكَامِلِ الْمَحَبَّةِ، الْمُسْتَغْرِقِ فِي مُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ إِذَا نَاوَلَهُ شَيْئًا يَسِيرًا‏.‏ فَإِنَّهُ يَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ عَظِيمًا جِدًّا‏.‏ وَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ يَشْهَدُ الْحَقَّ شُهُودَ مَحَبَّةٍ غَالِبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُ، مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِهِ كَذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِي فِي هَذِهِ الْحَالِ الشِّدَّةَ مِنْهُ‏.‏ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَحْلِي فِعْلَ الْمَحْبُوبِ بِهِ‏.‏

وَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ‏:‏ أَنْ يُخِفَّ عَلَيْهِ حِمْلُ الشَّدَائِدِ، إِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِاسْتِحْلَائِهَا‏.‏ وَفِي هَذَا مِنَ الْحِكَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّاسِ مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا، كَحَالِ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، حَتَّى ضُرِبَ آخَرَ سَوْطٍ‏.‏ فَصَاحَ صِيَاحًا شَدِيدًا‏.‏ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الْعَيْنُ الَّتِي كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيَّ وَقْتَ الضَّرْبِ كَانَتْ تَمْنَعُنِي مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالْأَلَمِ‏.‏ فَلَمَّا فَقَدْتُهَا وَجَدْتُ أَلَمَ الضَّرْبِ‏.‏

وَهَذِهِ الْحَالُ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ‏.‏ فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْبَى اسْتِحْلَاءَ الْمُنَافِي كَاسْتِحْلَاءِ الْمُوَافِقِ‏.‏

نَعَمْ قَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ حَتَّى يَسْتَحْلِيَ الْمُحِبُّ مَا يَسْتَمِرُّهُ غَيْرُهُ‏.‏ وَيَسْتَخِفَّ مَا يَسْتَثْقِلُهُ غَيْرُهُ‏.‏ وَيَأْنَسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ الْخَلِيُّ‏.‏ وَيَسْتَوْحِشَ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ، وَيَسْتَلِينَ مَا يَسْتَوْعِرُهُ‏.‏ وَقُوَّةُ هَذَا وَضَعْفُهُ بِحَسَبِ قَهْرِ سُلْطَانِ الْمَحَبَّةِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَشْهَدَهُ تَفْرِيدًا‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ مَعَهُ نِعْمَةً وَلَا شِدَّةً‏.‏

يَقُولُ‏:‏ إِنَّ شُهُودَ التَّفْرِيدِ‏:‏ يُفْنِي الرَّسْمَ‏.‏ وَهَذِهِ حَالُ الْفَنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ فِيهِ، الَّذِي لَا يَشْهَدُ نِعْمَةً وَلَا بَلِيَّةً‏.‏ فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ لَهُ‏.‏ وَيَفْنَى بِهِ عَنْهُ‏.‏ فَكَيْفَ يَشْهَدُ مَعَهُ نِعْمَةً أَوْ بَلِيَّةً‏؟‏ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا‏:‏ مَنْ كَانَتْ مَوَاهِبُهُ لَا تَتَعَدَّى يَدَيْهِ فَلَا وَاهِبَ وَلَا مَوْهُوبَ‏.‏

وَذَلِكَ مَقَامُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يُحَرِّمُ الْعِبَارَةَ عَنْهُ‏.‏

وَحَقِيقَتُهُ‏:‏ اصْطِلَامٌ يَرْفَعُ إِحْسَاسَ صَاحِبِهِ بِرَسْمِهِ، فَضْلًا عَنْ رَسْمِ غَيْرِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَغَيْبَتِهِ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ مَطْلُوبُ الْقَوْمِ‏.‏

وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ فَوْقَهُ مَقَامًا أَعْلَى مِنْهُ، وَأَرْفَعُ وَأَجَلُّ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَصْطَلِمَ بِمُرَادِهِ عَنْ غَيْرِهِ‏.‏ فَيَكُونَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ‏:‏ مُنَفِّذًا لِمَرَاسِيمِهِ وَمُرَادِهِ‏.‏ مُلَاحِظًا لِمَا يُلَاحِظُ مَحْبُوبُهُ مِنَ الْمُرَادَاتِ وَالْأَوَامِرِ‏.‏

فَتَأَمَّلِ الْآنَ عَبْدَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا‏.‏ وَهُمَا عَلَى مَوْقِفٍ وَاحِدٍ بَيْنَ يَدَيْهِ‏.‏ أَحَدُهُمَا مَشْغُولٌ بِمُشَاهَدَتِهِ‏.‏ فَإِنَّ اسْتِغْرَاقَهُ فِي مُلَاحَظَةِ الْمَلِكِ، لَيْسَ فِيهِ مُتَّسَعٌ إِلَى مُلَاحَظَةِ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمَلِكِ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَآخَرُ مَشْغُولٌ بِمُلَاحَظَةِ حَرَكَاتِ الْمَلِكِ وَكَلِمَاتِهِ، وَإِيشِ أَمْرِهِ وَلَحَظَاتِهِ وَخَوَاطِرِهِ، لِيُرَتِّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُرَادٌ لِلْمَلِكِ‏.‏

وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ بَعْضِ الْمُلُوكِ‏:‏ الَّذِي كَانَ لَهُ غُلَامٌ يَخُصُّهُ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَإِكْرَامِهِ، وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ غِلْمَانِهِ- وَلَمْ يَكُنِ الْغُلَامُ أَكْثَرَهُمْ قِيمَةً، وَلَا أَحْسَنَهُمْ صُورَةً- فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ‏.‏ فَأَرَادَ السُّلْطَانُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ فَضْلَ الْغُلَامِ فِي الْخِدْمَةِ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏ فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ كَانَ رَاكِبًا فِي بَعْضِ شُئُونِهِ‏.‏ وَمَعَهُ الْحَشَمُ، وَبِالْبُعْدِ مِنْهُ جَبَلٌ عَلَيْهِ ثَلْجٌ‏.‏ فَنَظَرَ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ الثَّلْجِ وَأَطْرَقَ‏.‏ فَرَكَضَ الْغُلَامُ فَرَسَهُ‏.‏ وَلَمْ يَعْلَمِ الْقَوْمُ لِمَاذَا رَكَضَ‏.‏ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّلْجِ‏.‏ فَقَالَ السُّلْطَانُ‏:‏ مَا أَدْرَاكَ أَنِّي أُرِيدُ الثَّلْجَ‏؟‏ فَقَالَ الْغُلَامُ‏:‏ لِأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَيْهِ‏.‏ وَنَظَرُ الْمُلُوكِ إِلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ‏.‏ فَقَالَ السُّلْطَانُ‏:‏ إِنَّمَا أَخُصُّهُ بِإِكْرَامِي وَإِقْبَالِي لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ شُغْلًا، وَشُغْلُهُ مُرَاعَاةُ لَحَظَاتِي، وَمُرَاقِبَةُ أَحْوَالِي‏.‏ يَعْنِي فِي تَحْصِيلِ مُرَادِي‏.‏

وَسَمِعْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ‏:‏ لَوْ قَالَ مَلِكٌ لِغُلَامَيْنِ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، مُسْتَغْرِقَيْنِ فِي مُشَاهَدَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ‏:‏ اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ عَدُوِّي‏.‏ فَأَوْصِلَا إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْكُتُبَ‏.‏ وَطَالِعَانِي بِأَحْوَالِهِمْ‏.‏ وَافْعَلَا كَيْتَ وَكَيْتَ‏.‏ فَأَحَدُهُمَا‏:‏ مَضَى مِنْ سَاعَتِهِ لِوَجْهِهِ‏.‏ وَبَادَرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَالْآخَرُ قَالَ‏:‏ أَنَا لَا أَدَعُ مُشَاهَدَتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقَ فِيكَ‏.‏ وَدَوَامَ النَّظَرِ إِلَيْكَ‏.‏ وَلَا أَشْتَغِلُ بِغَيْرِكَ‏:‏ لَكَانَ هَذَا جَدِيرًا بِمَقْتِ الْمَلِكِ لَهُ، وَبُغْضِهِ إِيَّاهُ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ‏.‏ إِذْ هُوَ وَاقِفٌ مَعَ مُجَرَّدِ حَظِّهِ مِنَ الْمَلِكِ‏.‏ لَا مَعَ مُرَادِ الْمَلِكِ مِنْهُ، بِخِلَافِ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَسَمِعَتْهُ أَيْضًا يَقُولُ‏:‏ لَوْ أَنَّ شَخْصَيْنِ ادَّعَيَا مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ‏.‏ فَحَضَرَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏.‏ فَأَقْبَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى مُشَاهَدَتِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَقَطْ‏.‏ وَأَقْبَلَ الْآخَرُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ مُرَادَاتِهِ وَمَرَاضِيهِ وَأَوَامِرِهِ لِيَمْتَثِلَهَا‏.‏ فَقَالَ لَهُمَا‏:‏ مَا تُرِيدَانِ‏؟‏ فَقَالَ أَحَدُهُمَا‏:‏ أُرِيدُ دَوَامَ مُشَاهَدَتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقَ فِي جَمَالِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ أُرِيدُ تَنْفِيذَ أَوَامِرِكَ، وَتَحْصِيلَ مَرَاضِيكَ‏.‏ فَمُرَادِي مِنْكَ مَا تُرِيدُهُ أَنْتَ مِنِّي‏.‏ لَا مَا أُرِيدُهُ أَنَا مِنْكَ‏.‏ وَالْآخَرُ قَالَ‏:‏ مُرَادِي مِنْكَ تَمَتُّعِي بِمُشَاهَدَتِكَ‏.‏ أَكَانَا عِنْدَهُ سَوَاءً‏؟‏

فَمَنْ هُوَ الْآنَ صَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الْمَعْلُولَةِ الْمَدْخُولَةِ، النَّاقِصَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَصَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّادِقَةِ الْكَامِلَةِ‏؟‏ أَهَذَا أَمْ هَذَا‏؟‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ النَّاسُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ‏.‏ وَالصُّوفِيَّةُ يَعْبُدُونَ أَنْفُسَهُمْ‏.‏

أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ، وَأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ مُرَادِهِمْ مِنَ اللَّهِ‏.‏ لَا مَعَ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُمْ‏.‏ وَهَذَا عَيْنُ عِبَادَةِ النَّفْسِ‏.‏ فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ‏.‏ فَإِنَّهُ مِحَكٌّ وَمِيزَانٌ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ

‏[‏الْحَيَاءُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏]‏

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ- وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ- فَقَالَ‏:‏ دَعْهُ‏.‏ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً- أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً- فَأَفْضَلُهَا‏:‏ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ‏.‏ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ‏.‏

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا‏.‏ فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى‏:‏ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ‏.‏ وَفِي هَذَا قَوْلَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ‏.‏ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ‏.‏ أَيِ انْظُرْ إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ‏.‏ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَحْيَا مَنْهُ فَافْعَلْهُ‏.‏ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّا نَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ ذَلِكُمْ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى‏.‏ وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى‏.‏ وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى‏.‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا‏.‏ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ‏]‏

وَالْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ‏.‏ وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ مَعْنَاهُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ‏.‏ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ‏.‏ فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ‏.‏

قَالَ الْجُنَيْدُ- رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ‏.‏ وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ‏.‏ وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ‏.‏ وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ‏.‏

وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ‏:‏ أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ‏.‏ وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ‏:‏ بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ‏.‏ فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ‏.‏

وَقَالَ ذُو النُّونِ‏:‏ الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ، وَالْحُبُّ يُنْطِقُ وَالْحَيَاءُ يُسْكِتُ‏.‏ وَالْخَوْفُ يُقْلِقُ‏.‏

وَقَالَ السَّرِيُّ‏:‏ إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْأُنْسَ يَطْرُقَانِ الْقَلْبَ‏.‏ فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ وَإِلَّا رَحَلَا‏.‏

وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ابْنَ آدَمَ‏.‏ إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ‏.‏ وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ‏.‏ وَمَحَوْتُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ زَلَّاتِكَ‏.‏ وَإِلَّا نَاقَشْتُكَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ آخَرَ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ عِظْ نَفْسَكَ‏.‏ فَإِنِ اتَّعَظَتْ، وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي أَنْ تَعِظَ النَّاسَ‏.‏

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ خَمْسٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّقْوَةِ‏:‏ الْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ‏.‏ وَجُمُودُ الْعَيْنِ‏.‏ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ‏.‏ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا‏.‏ وَطُولُ الْأَمَلِ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ‏:‏ مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي‏.‏ يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ‏.‏ وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي‏.‏

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ مُذْنِبٌ‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ‏.‏

وَمَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالِ طَاعَتِهِ‏.‏ فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِطْرَاقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ‏:‏ فَإِنَّهُ إِذَا وَاقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ‏.‏ فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَرَى مِنْ وَلِيِّهِ وَمَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ‏:‏ مَا يَشِينُهُ عِنْدَهُ‏.‏ وَفِي الشَّاهِدِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَخَصِّ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ- مِنْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ مَنْ يُحِبُّهُ- وَهُوَ يَخُونُهُ‏.‏ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ حَيَاءٌ عَجِيبٌ‏.‏ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي‏.‏ وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَيَاءِ أَنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ فِي حَالِ طَاعَتِهِ كَأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ‏.‏ وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خَائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الْحَيَاءُ‏.‏ كَمَا إِذَا شَاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، أَوْ مَنْ قَدْ أُحْصِرَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَخْجَلُ أَيْضًا‏.‏ تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ‏.‏

وَهَذَا قَدْ يَقَعُ‏.‏ وَلَكِنَّ حَيَاءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا‏.‏ فَإِنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فَارِغُ الْبَالِ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْحَيَاءُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ‏.‏ وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وَسُقُوطُهُ مِنْ عَيْنِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا سَبَبُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِهِ‏.‏ فَيُنْزِلُ الْوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ هُوَ‏.‏ وَلَا سِيَّمَا إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ الْمُكَاشَفَةِ بَيْنَهُمَا‏.‏ فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَهِيجُ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْهُ تَكَرُّمًا‏.‏ فَعِنْدَ تَقْدِيرِهَا يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الْحَيَاءُ‏.‏ هَذَا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ‏.‏

وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ‏:‏ فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ‏.‏ لَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ‏.‏ وَلَا تَكَيَّفُهُ الْعُقُولُ‏.‏ فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَبِرٍّ وُجُودٍ وَجَلَالٍ‏.‏ فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا‏.‏ وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ شَابَتْ فِي الْإِسْلَامِ‏.‏

وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ سُبْحَانَ مَنْ يُذْنِبُ عَبْدُهُ وَيَسْتَحْيِي هُوَ‏.‏ وَفِي أَثَرٍ‏:‏ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ‏.‏

‏[‏أَقْسَامُ الْحَيَاءِ‏]‏

وَقَدْ قَسَّمَ الْحَيَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ‏:‏ حَيَاءُ جِنَايَةٍ‏.‏ وَحَيَاءُ تَقْصِيرٍ‏.‏ وَحَيَاءُ إِجْلَالٍ‏.‏ وَحَيَاءُ كَرَمٍ‏.‏ وَحَيَاءُ حِشْمَةٍ‏.‏ وَحَيَاءُ اسْتِصْغَارٍ لِلنَّفْسِ وَاحْتِقَارٍ لَهَا‏.‏ وَحَيَاءُ مَحَبَّةٍ‏.‏ وَحَيَاءُ عُبُودِيَّةٍ‏.‏ وَحَيَاءُ شَرَفٍ وَعِزَّةٍ‏.‏ وَحَيَاءُ الْمُسْتَحْيِي مِنْ نَفْسِهِ‏.‏

فَأَمَّا حَيَاءُ الْجِنَايَةِ‏:‏ فَمِنْهُ حَيَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا يَا رَبِّ‏.‏ بَلْ حَيَاءً مِنْكَ‏.‏

وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ‏:‏ كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا‏:‏ سُبْحَانَكَ‏!‏ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ‏.‏

وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ‏:‏ هُوَ حَيَاءُ الْمَعْرِفَةِ‏.‏ وَعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ‏.‏

وَحَيَاءُ الْكَرَمِ‏:‏ كَحَيَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ‏.‏ فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ‏:‏ انْصَرِفُوا‏.‏

وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ‏:‏ كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَذْيِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ‏.‏

وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ‏:‏ كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ، احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا‏.‏ وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ‏:‏ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا‏.‏ فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكَ هِيَ يَا رَبِّ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ‏.‏ وَعَلَفَ شَاتِكَ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ سَبَبَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ اسْتِحْقَارُ السَّائِلِ نَفْسَهُ‏.‏ وَاسْتِعْظَامُ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ اسْتِعْظَامُ مَسْئُولِهِ‏.‏

وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ‏:‏ فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ‏.‏ وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ‏:‏ جَمَالٌ رَائِعٌ‏.‏ وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ‏.‏ فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ‏؟‏ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ‏.‏ فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ‏.‏ وَرَآهُ بَغْتَةً‏:‏ أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ‏.‏ فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ‏.‏

وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏؟‏ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ‏.‏ فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا‏.‏

وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ- كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ- فَسَبَبُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ‏.‏ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ‏.‏ وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ‏:‏ فَظَاهِرٌ‏.‏ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ‏.‏ فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ‏.‏

وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ‏:‏ فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا‏.‏ فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ‏:‏ فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ‏.‏ فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ‏.‏ وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا هَذَا‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذِ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ‏.‏ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ‏.‏ وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ‏.‏ لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ‏.‏

وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ‏:‏ فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ‏.‏ فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى‏.‏ وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ‏.‏ فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَرُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْحَيَاءُ أَوَّلُ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الْحَيَاءُ‏:‏ مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ‏.‏ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ‏.‏

إِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ‏:‏ لِمَا فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ حُضُورِ مَنْ يَسْتَحْيِي مِنْهُ‏.‏ وَأَوَّلُ سُلُوكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ‏:‏ أَنْ يَرَوُا الْحَقَّ سُبْحَانَهُ حَاضِرًا مَعَهُمْ، وَعَلَيْهِ بِنَاءُ سُلُوكِهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الْحَيَاءَ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ مِنِ امْتِزَاجِ التَّعْظِيمِ بِالْمَوَدَّةِ‏.‏ فَإِذَا اقْتَرَنَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الْحَيَاءُ‏.‏

وَ الْجُنَيْدُ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ تَوَلُّدَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ النِّعَمِ‏.‏ وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ تُوَلُّدُهُ مِنْ شُعُورِ الْقَلْبِ بِمَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ‏.‏ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الشُّعُورِ وَالنُّفْرَةِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءَ‏.‏

وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ‏.‏ فَإِنَّ لِلْحَيَاءِ عِدَّةَ أَسْبَابٍ‏.‏ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى بَعْضِهَا‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْحَيَاءِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ‏.‏ فَيَجْذِبُهُ إِلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ‏.‏ وَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ الْجِنَايَةِ‏.‏ وَيُسْكِتُهُ عَنِ الشَّكْوَى‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى نَاظِرٌ إِلَيْهِ أَوْرَثَهُ هَذَا الْعِلْمُ حَيَاءً مِنْهُ‏.‏ يَجْذِبُهُ إِلَى احْتِمَالِ أَعْبَاءِ الطَّاعَةِ، مِثْلَ الْعَبْدِ إِذَا عَمِلَ الشُّغْلَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَشِيطًا فِيهِ، مُحْتَمِلًا لِأَعْبَائِهِ‏.‏ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْإِحْسَانِ مِنْ سَيِّدِهِ إِلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِسَيِّدِهِ‏.‏ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ‏.‏ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَغِيبُ نَظَرُهُ عَنْ عَبْدِهِ‏.‏ وَلَكِنْ يَغِيبُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَالْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبِيدِ‏.‏ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا غَابَ نَظَرُهُ، وَقَلَّ الْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ‏:‏ تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ الْحَيَاءِ وَالْقِحَةُ‏.‏

وَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ جِنَايَتِهِ‏.‏ وَهَذَا الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ بِالْحَيَاءِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى اسْتِقْبَاحِ مُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ‏.‏ وَهُوَ فَوْقَهُ‏.‏

وَأَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً‏:‏ الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ عَنِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَاسْتِقْبَاحُ الْمُحِبِّ أَتَمُّ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الْخَائِفِ‏.‏ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَاءَ يَكُفُّ الْعَبْدَ أَنْ يَشْتَكِيَ لِغَيْرِ اللَّهِ‏.‏ فَيَكُونَ قَدْ شَكَا اللَّهَ إِلَى خَلْقِهِ‏.‏ وَلَا يَمْنَعُ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ‏.‏ فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقْرٌ، وَذِلَّةٌ، وَفَاقَةٌ، وَعُبُودِيَّةٌ‏.‏ فَالْحَيَاءُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُنَافِيهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ‏.‏ فَيَدْعُوهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَيَرْبُطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ‏.‏ وَيُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ‏.‏

النَّظَرُ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ‏:‏ تَحَقُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ مَعَ اللَّهِ‏.‏ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ نَوْعَانِ‏:‏ عَامَّةٌ‏.‏ وَهِيَ‏:‏ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏‏.‏

وَخَاصَّةٌ‏:‏ وَهِيَ مَعِيَّةُ الْقُرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

فَهَذِهِ مَعِيَّةُ قُرْبٍ‏.‏ تَتَضَمَّنُ الْمُوَالَاةَ، وَالنَّصْرَ، وَالْحِفْظَ‏.‏ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُصَاحَبَةٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ‏.‏ لَكِنَّ هَذِهِ مُصَاحَبَةُ اطِّلَاعٍ وَإِحَاطَةٍ‏.‏ وَهَذِهِ مُصَاحَبَةُ مُوَالَاةٍ وَنَصْرٍ وَإِعَانَةٍ‏.‏ فَـ ‏"‏ مَعَ ‏"‏ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُفِيدُ الصُّحْبَةَ اللَّائِقَةَ، لَا تُشْعِرُ بِامْتِزَاجٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ، وَلَا مُجَاوَرَةٍ، وَلَا مُجَانَبَةٍ‏.‏ فَمَنْ ظَنَّ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا فَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِ أُتِيَ‏.‏

وَأَمَّا الْقُرْبُ‏:‏ فَلَا يَقَعُ الْقُرْآنُ إِلَّا خَاصًّا‏.‏ وَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ بِالْإِجَابَةِ‏.‏ وَقُرْبُهُ مِنْ عَابِدِهِ بِالْإِثَابَةِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏‏.‏ وَلِهَذَا نَزَلَتْ جَوَابًا لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏ وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيَهُ‏؟‏ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ‏.‏ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ‏.‏ فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ‏:‏ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ‏.‏ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏.‏ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا‏.‏ إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏.‏ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ‏.‏

فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ بِالدَّاعِي دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ‏.‏ وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي كَمَالَ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ لِخَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ‏.‏ بَلْ يُجَامِعُهُ وَيُلَازِمُهُ‏.‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَقُرْبِ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ‏.‏ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏ وَلَكِنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ‏.‏ وَالْعَبْدُ فِي الشَّاهِدِ يَجِدُ رُوحَهُ قَرِيبَةً جِدًّا مِنْ مَحْبُوبٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَفَاوِزُ تَتَقَطَّعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ‏.‏ وَيَجِدُهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ جَلِيسِهِ‏.‏ كَمَا قِيلَ‏.‏

أَلَا رُبَّ مَنْ يَدْنُو وَيَزْعُمُ أَنَّهُ *** يُحِبُّكَ وَالنَّائِي أَحَبُّ وَأَقْرَبُ

وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَثَتُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، الَّذِينَ هُوَ عِنْدَهُمْ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏.‏ وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا‏:‏ يَجِدُونَ نُفُوسَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ‏.‏ وَهُمْ فِي الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ عَنْهُ مِنْ جِيرَانِ حُجْرَتِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمُحِبُّونَ الْمُشْتَاقُونَ لِلْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ يَجِدُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْ جِيرَانِهَا وَمَنْ حَوْلَهَا‏.‏ هَذَا مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الْقُرْبِ مِنْهَا‏.‏ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ‏.‏ وَأَهْلُ الذَّوْقِ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى شُبْهَةِ مُعَطِّلٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ، خَلِيٍّ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ‏.‏

وَالْقَصْدُ‏:‏ أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبًّا ازْدَادَ قُرْبًا‏.‏ فَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ قُرْبَيْنِ‏:‏ قُرْبٍ قَبْلَهَا، وَقُرْبٍ بَعْدَهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ‏:‏ مَعْرِفَةٍ قَبْلَهَا حَمَلَتْ عَلَيْهَا، وَدَعَتْ إِلَيْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا‏.‏ وَمَعْرِفَةٍ بَعْدَهَا‏.‏ هِيَ مِنْ نَتَائِجِهَا وَآثَارِهَا‏.‏

وَأَمَّا رَبْطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ‏:‏ فَهُوَ تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِرُوحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، تَعَلُّقًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ‏.‏ بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْأُنْسِ رَابِطَةً لَازِمَةٍ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ‏.‏ بَلْ يَجِدُ الْوَحْشَةَ فِي مُلَابَسَتِهِمْ بِقَدْرِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ‏.‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ‏.‏ فَإِنْ لَابَسَهُمْ لَابَسَهُمْ بِرَسْمِهِ دُونَ سِرِّهِ وَرُوحِهِ وَقَلْبِهِ‏.‏ فَقَلْبُهُ وَرُوحُهُ فِي مَلَأٍ، وَبَدَنُهُ وَرَسْمُهُ فِي مَلَأٍ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ‏.‏ وَهِيَ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا هَيْبَةٌ‏.‏ وَلَا تُقَارِنُهَا تَفْرِقَةٌ‏.‏ وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ‏.‏

شُهُودُ الْحَضْرَةِ‏:‏ انْجِذَابُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَعُكُوفُهُ عَلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، فَهُوَ فِي حَضْرَةِ قُرْبِهِ مُشَاهِدًا لَهَا‏.‏ وَإِذَا وَصَلَ الْقَلْبُ إِلَيْهَا غَشِيَتْهُ الْهَيْبَةُ وَزَالَتْ عَنْهُ التَّفْرِقَةُ‏.‏ إِذْ مَا مَعَ اللَّهِ سِوَاهُ‏.‏ فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ سِوَى اللَّهِ وَحْدَهُ‏.‏ وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِيَّةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ‏.‏

فَيَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَظَفِرَ بِهِ‏:‏ وَصَلَ إِلَى الْغَايَةِ، إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ بِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى غَايَةٍ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ‏.‏ بَلْ إِذَا شَهِدَ تِلْكَ الرَّوَابِيَ‏.‏ وَوَقَفَ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ، وَعَايَنَ الْحَضْرَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْغَايَاتِ، شَارَفَ أَمْرًا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ‏.‏ وَالْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ كُلُّهَا إِلَيْهِ تَنْتَهِي ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى‏}‏ فَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ‏.‏ وَلَيْسَ لَهُ سُبْحَانَهُ غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ‏.‏ لَا فِي وُجُودِهِ، وَلَا فِي مَزِيدِ جُودِهِ‏.‏ إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ‏.‏ وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ‏.‏ وَلَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ وَعَطَائِهِ‏.‏ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ الْعَبْدُ شُكْرًا زَادَهُ فَضْلًا‏.‏ وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ طَاعَةً زَادَهُ لِمَجْدِهِ مَثُوبَةً‏.‏ وَكُلَّمَا ازْدَادَ مِنْهُ قُرْبًا لَاحَ لَهُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏ وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَقِفُ عَلَى غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ‏.‏ وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي مَزِيدٍ دَائِمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ فَإِنَّ نَعِيمَهُمْ مُتَّصِلٌ مِمَّنْ لَا نِهَايَةَ لِفَضْلِهِ وَلَا لِعَطَائِهِ، وَلَا لِمَزِيدِهِ وَلَا لِأَوْصَافِهِ‏.‏ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ‏}‏‏.‏ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ

‏[‏حَقِيقَةُ الصِّدْقِ‏]‏

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْأَعْظَمِ‏.‏ الَّذِي مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ الَّذِي مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمُنْقَطِعِينَ الْهَالِكِينَ‏.‏ وَبِهِ تَمَيَّزَ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَسُكَّانُ الْجِنَانِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ‏.‏ وَهُوَ سَيْفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِي مَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا قَطَعَهُ‏.‏ وَلَا وَاجَهَ بَاطِلًا إِلَّا أَرْدَاهُ وَصَرَعَهُ‏.‏ مَنْ صَالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ‏.‏ وَمَنْ نَطَقَ بِهِ عَلَتْ عَلَى الْخُصُومِ كَلِمَتُهُ‏.‏ فَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَمَحَكُّ الْأَحْوَالِ، وَالْحَامِلُ عَلَى اقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ الْوَاصِلُونَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ‏.‏ وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّينِ، وَعَمُودُ فُسْطَاطِ الْيَقِينِ‏.‏ وَدَرَجَتُهُ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَالِمِينَ‏.‏ وَمِنْ مَسَاكِنِهِمْ فِي الْجَنَّاتِ تُجْرَى الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ إِلَى مَسَاكِنِ الصِّدِّيقِينَ‏.‏ كَمَا كَانَ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ وَمَعِينٌ‏.‏

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ‏:‏ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏.‏ وَخَصَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ‏}‏ فَهُمُ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى ‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏ وَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَمُدُّهُمْ بِأَنْعُمِهِ وَأَلْطَافِهِ وَمَزِيدِهِ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا‏.‏ وَلَهُمْ مَرْتَبَةُ الْمَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ‏.‏ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلَهُمْ مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ مِنْهُ‏.‏ إِذْ دَرَجَتُهُمْ مِنْهُ ثَانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ‏.‏

وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ صَدَقَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ‏}‏‏.‏

وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ‏.‏ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ‏:‏ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّبْرِ‏.‏ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّدْقَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ‏.‏ وَأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مَقَامُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ‏.‏

وَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وَالْإِيمَانُ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ‏.‏ وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ‏.‏ فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا مُحَارِبٌ لِلْآخَرِ‏.‏

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صِدْقُهُ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ‏:‏ هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَحَالِهِ‏.‏ فَالصِّدْقُ‏:‏ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ‏.‏

فَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ‏:‏ اسْتِوَاءُ اللِّسَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ، كَاسْتِوَاءِ السُّنْبُلَةِ عَلَى سَاقِهَا‏.‏ وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ‏:‏ اسْتِوَاءُ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْمُتَابَعَةِ‏.‏ كَاسْتِوَاءِ الرَّأْسِ عَلَى الْجَسَدِ‏.‏ وَالصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ‏:‏ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى الْإِخْلَاصِ‏.‏ وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَبَذْلُ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ‏.‏ وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ‏:‏ تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ‏.‏ وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ‏:‏ ذُرْوَةُ سَنَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالصِّدِّيقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ وَالصَّدُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ‏.‏

فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ‏:‏ مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ‏.‏ وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ‏.‏

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ‏:‏ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ عَلَى الصِّدْقِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا‏}‏ وَأَخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ وَبَشَّرَ عِبَادَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، وَمَقْعَدَ صِدْقٍ‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ‏}‏‏.‏

فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ مُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ‏.‏ وَلِسَانُ الصِّدْقِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَمَقْعَدُ الصِّدْقِ‏.‏

وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ‏:‏ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ، الْمُتَّصِلُ بِاللَّهِ، الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ وَلَهُ، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ‏.‏ وَجَزَاءُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏

فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ حَقًّا ثَابِتًا بِاللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ‏.‏ بِالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الْكَذِبِ وَمُدْخَلِهِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إِلَيْهَا‏.‏ وَلَا لَهُ سَاقٌ ثَابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا‏.‏ كَمُخْرَجِ أَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ‏.‏ وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ‏:‏ كَانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، وَلِلَّهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ‏.‏ فَاتَّصَلَ بِهِ التَّأْيِيدُ، وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ، وَإِدْرَاكُ مَا طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ مُدْخَلِ الْكَذِبِ الَّذِي رَامَ أَعْدَاؤُهُ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، وَلَا لِلَّهِ‏.‏ بَلْ كَانَ مُحَادَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إِلَّا الْخِذْلَانُ وَالْبَوَارُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَنْ دَخَلَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُحَارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ‏.‏ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ‏:‏ أَصَابَهُ مَعَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ‏.‏

فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهُمْ وَمُخْرَجٍ كَانَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ‏.‏ فَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَهُوَ مُدْخَلُ صِدْقٍ، وَمُخْرَجُ صِدْقٍ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ‏:‏ رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لَا أَكُونُ فِيهِ ضَامِنًا عَلَيْكَ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ‏.‏ وَلِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ وَمُخْرَجُهُ‏:‏ بِخُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ‏.‏ إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ‏.‏

وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ- أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ- إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ‏:‏ لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَأَمَّا لِسَانُ الصِّدْقِ‏:‏ فَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالصِّدْقِ‏.‏ لَيْسَ ثَنَاءً بِالْكَذِبِ‏.‏ كَمَا قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا‏}‏ وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هَاهُنَا‏:‏ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ الصِّدْقُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ‏.‏ أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْسِنَةَ الْعِبَادِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الصَّادِقِ، جَزَاءً وِفَاقًا‏.‏ وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ‏.‏

فَإِنَّ اللِّسَانَ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ‏:‏ هَذَا، وَاللُّغَةُ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ وَيُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ نَفْسُهَا‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا قَدَمُ الصِّدْقِ‏:‏ فَفُسِّرَ بِالْجَنَّةِ‏.‏ وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَفُسِّرَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ‏.‏

وَحَقِيقَةُ الْقَدَمِ مَا قَدَّمُوهُ‏.‏ وَمَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ وَهُمْ قَدَّمُوا الْأَعْمَالَ وَالْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَمُونَ عَلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ ذَلِكَ‏.‏

فَمَنْ فَسَّرَهُ بِهَا أَرَادَ‏:‏ مَا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِ‏.‏ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَلِأَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا‏.‏ وَقَدَّمُوا الْإِيمَانَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏.‏ فَالثَّلَاثَةُ قَدَمُ صِدْقٍ‏.‏ وَأَمَّا مَقْعَدُ الصِّدْقِ‏:‏ فَهُوَ الْجَنَّةُ عِنْدَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏

وَوَصْفُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَهُ وَاسْتِقْرَارَهُ، وَأَنَّهُ حَقُّ، وَدَوَامَهُ وَنَفْعَهُ، وَكَمَالَ عَائِدَتِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ، كَائِنٌ بِهِ وَلَهُ‏.‏ فَهُوَ صِدْقٌ غَيْرُ كَذِبٍ‏.‏ وَحَقٌّ غَيْرُ بَاطِلٍ‏.‏ وَدَائِمٌ غَيْرُ زَائِلٍ‏.‏ وَنَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ‏.‏ وَمَا لِلْبَاطِلِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا مَدْخَلٌ‏.‏

وَمِنْ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ‏:‏ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ‏.‏ وَمِنْ عَلَامَاتِ الْكَذِبِ‏:‏ حُصُولُ الرِّيبَةِ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ- مَرْفُوعًا- مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ‏.‏ وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ‏.‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ‏.‏ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا‏.‏ وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ‏.‏ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ‏.‏ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَجَعَلَ الصِّدْقَ مِفْتَاحَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَمَبْدَأَهَا‏.‏ وَهِيَ غَايَتُهُ‏.‏ فَلَا يَنَالُ دَرَجَتَهَا كَاذِبٌ أَلْبَتَّةَ‏.‏ لَا فِي قَوْلِهِ‏:‏، وَلَا فِي عَمَلِهِ، وَلَا فِي حَالِهِ‏.‏ وَلَا سِيَّمَا كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ‏.‏ أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ‏.‏ فَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ صِدِّيقٌ أَبَدًا‏.‏

وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ‏.‏ بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ‏.‏ وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ‏.‏ وَإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، وَكَرَاهَةِ مَا أَحَبَّهُ، وَاسْتِحْبَابِ مَا لَمْ يُحِبَّهُ‏.‏ كُلُّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلصِّدِّيقِيَّةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ‏:‏ بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَالزَّاهِدِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ‏.‏ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ‏.‏

فَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّدِّيقِيَّةُ‏:‏ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُتَابَعَةَ لِلْخَبَرِ وَالْأَمْرِ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَتَّى إِنَّ صِدْقَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمَا‏.‏ وَكَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا‏.‏ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا‏.‏ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا‏.‏ وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا‏:‏ مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ فِي كَلِمَاتٍ فِي حَقِيقَةِ الصِّدْقِ

قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ الصِّدْقُ حَقِيقَتُهُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ‏:‏ الْوَفَاءُ لِلَّهِ بِالْعَمَلِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مُوَافَقَةُ السِّرِّ النُّطْقَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ‏.‏ يَعْنِي أَنَّ الْكَاذِبَ عَلَانِيَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَرِيرَتِهِ‏.‏ كَالْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خَيْرٌ مِنْ بَاطِنِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الصِّدْقُ‏:‏ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ الْهَلَكَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً‏.‏ وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ‏.‏ وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ‏.‏ لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ‏.‏ وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ‏.‏ فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ‏.‏

لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا‏.‏ فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي‏.‏ بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ‏.‏ وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ‏.‏ كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا‏.‏ وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا‏.‏ فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ‏.‏ وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ‏.‏ وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ‏.‏ لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا‏.‏ وَمَكَانٍ وَسَبَبٍ‏:‏ أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ‏.‏ فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ‏.‏ فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ‏.‏ وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ‏.‏ وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا‏.‏ فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ‏.‏ وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ‏.‏ فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا‏.‏ فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ‏.‏ وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ‏.‏ فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا‏.‏ وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ‏.‏ ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ‏.‏ ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ‏.‏ أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ‏.‏ أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ- إِنْ أَمْكَنَ- إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ‏.‏

فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ‏.‏ لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ‏.‏ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ‏.‏ وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ‏.‏ وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ‏.‏ وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ‏.‏ وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.‏

فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا‏:‏ كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ‏.‏ فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ- وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ- اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ‏.‏ وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ‏.‏ وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ‏.‏ وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ‏:‏ أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ‏.‏ وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ‏.‏ وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ‏:‏ لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ‏.‏ وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ‏.‏ وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ‏.‏ وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ‏.‏

فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ‏.‏

وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي‏.‏ لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ‏.‏ فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ‏.‏ وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ‏.‏ فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ‏.‏ فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَا يَشَمُّ رَائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ دَاهَنَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الصَّادِقُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَسْتَحْيِيَ مِنْ سِرِّهِ لَوْ كُشِفَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا لِلنَّاسِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ‏.‏

قَالُوا‏:‏ إِنَّهَا مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ أَعْجَزَ بِهَا الْيَهُودَ‏.‏ وَدَعَاهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا‏.‏ وَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ إِلَّا بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ‏.‏ وَلَمْ يُنْطِقِ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ بِتَمَنِّيهِ أَبَدًا‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ أَنَّ لَهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ عِنْدَ اللَّهِ، خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ، كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ‏.‏ لِتَصِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ دَارِ النَّعِيمِ، فَإِنَّ الْحَبِيبَ يَتَمَنَّى لِقَاءَ حَبِيبِهِ‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ‏:‏ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَوْزَارِ وَالذُّنُوبِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ- مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ- هَذِهِ مِنْ جِنْسِ آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا، وَدَفَعُوا الْهُدَى عَيَانًا‏.‏ وَكَتَمُوا الْحَقَّ‏:‏ دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي‏.‏ وَالتَّمَنِّي سُؤَالٌ وَدُعَاءٌ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَادْعُوا بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي‏.‏

وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ‏:‏ تَمَنُّوهُ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ‏.‏ بَلْ مَعْنَاهُ‏:‏ ادْعُوا بِالْمَوْتِ وَتَمَنُّوهُ لِلْمُبْطِلِ‏.‏ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَبُرْهَانِ الصِّدْقِ، وَأَسْلَمُ مِنْ أَنْ يُعَارِضُوا رَسُولَ اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ فَتَمَنُّوهُ أَنْتُمْ أَيْضًا‏.‏ إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ أَنَّكُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ‏.‏ لِتَقْدَمُوا عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ‏.‏ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، فَلَوْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ أُولَئِكَ لَعَارَضُوهُ بِمِثْلِهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّا نُشَاهِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرِّهِ وَبَلَائِهِ، وَشِدَّةِ حَالِهِ‏.‏ وَيَدْعُو بِهِ‏.‏ وَهَذَا بِخِلَافِ تَمَنِّيهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ عَلَى الْفِرْقَةِ الْكَاذِبَةِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا‏.‏ وَلَا وَقَعَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا‏.‏ فَلَا يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا‏.‏ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏.‏ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كِتَابِهِ‏.‏

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَاصُّ‏:‏ الصَّادِقُ لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي فَرْضٍ يُؤَدِّيهِ، أَوْ فَضْلٍ يَعْمَلُ فِيهِ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ‏:‏ أَنَّ تَصْدُقَ فِي مَوْطِنٍ لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ إِلَّا الْكَذِبُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ثَلَاثٌ لَا تُخْطِئُ الصَّادِقَ‏:‏ الْحَلَاوَةُ، وَالْمَلَاحَةُ، وَالْهَيْبَةُ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ مَنْ صَدَقَنِي فِي سَرِيرَتِهِ صَدَقْتُهُ فِي عَلَانِيَتِهِ عِنْدَ خَلْقِي‏.‏

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَوَّلُ خِيَانَةِ الصِّدِّيقِينَ‏:‏ حَدِيثُهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ‏:‏ لَأَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً أُعَامِلُ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ‏:‏ الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ‏.‏ وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ‏.‏ وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ‏.‏ فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ‏.‏ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ‏.‏

وَفِي هَذَا نَظَرٌ‏.‏ لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِ كَرَاهَتِهِ لِلضَّرْبِ وَالْمَرَضِ وَسَائِرِ الْآلَامِ‏.‏ وَهَذَا أَمْرٌ جَبَلِيٌّ طَبِيعِيٌّ‏.‏ وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنِ الصِّدْقِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ قُدْوَةً مُتَّبَعًا‏.‏ فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ‏.‏ لِأَنَّ فِيهَا مَفْسَدَتَيْنِ‏:‏ مَفْسَدَةَ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْفِيذِهِ‏.‏ وَمَفْسَدَةَ اقْتِدَاءِ الْجُهَّالِ بِهِ فِيهَا‏.‏ فَكَرَاهِيَتُهُ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ‏:‏ لَا تُنَافِي صِدْقَهُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ‏.‏

نَعَمِ الْمُنَافِي لِلصِّدْقِ‏:‏ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ سِوَى عِمَارَةِ حَالِهِ عِنْدَهُمْ، وَسُكْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُ‏.‏ فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَشْرًا لِدِينِهِ، وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَعْوَةً إِلَى اللَّهِ‏:‏ فَهَذَا الصَّادِقُ حَقًّا‏.‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْقُلُوبِ وَمَقَاصِدَهَا‏.‏

وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُحَاسِبِيِّ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَلَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فُضُولًا، وَدُخُولًا فِيمَا لَا يَعْنِي‏.‏ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَيْثُ قَالَ‏:‏ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا- أَوْ عِقَالًا- كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ‏.‏ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَعُدُّونَهُ وَيَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْفَرْضَ الدَّائِمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الْفَرْضُ الْمُؤَقَّتُ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمَا الْفَرْضُ الدَّائِمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الصِّدْقُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَنْ طَلَبَ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَعْطَاهُ مِرْآةً يُبْصِرُ فِيهَا الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ‏.‏ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ‏.‏ وَدَعِ الْكَذِبَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ‏.‏ فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَا أَمْلَقَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الصِّدْقِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الصِّدْقُ‏:‏ اسْمٌ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ حُصُولًا وَوُجُودًا‏.‏

الصِّدْقُ‏:‏ هُوَ حُصُولُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ، وَكَمَالُ قُوَّتِهِ، وَاجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ‏.‏ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ‏:‏ مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَإِرَادَةٌ صَادِقَةٌ‏.‏ وَكَذَا قَوْلُهُمْ‏:‏ حَلَاوَةٌ صَادِقَةٌ‏:‏ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً ثَابِتَةَ الْحَقِيقَةِ‏.‏ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ‏.‏

وَمِنْ هَذَا أَيْضًا‏:‏ صِدْقُ الْخَبَرِ‏.‏ لِأَنَّهُ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِتَمَامِ حَقِيقَتِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ‏.‏

فَالتَّمَامُ وَالْوُجُودُ نَوْعَانِ‏:‏ خَارِجِيٌّ، وَذِهْنِيٌّ‏.‏ فَإِذَا أَخْبَرْتَ الْمُخَاطَبَ بِخَبَرٍ صَادِقٍ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِكَمَالِهِ وَتَمَامِهِ فِي ذِهْنِهِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا‏:‏ وَصْفُهُمُ الرُّمْحَ بِأَنَّهُ صَادِقُ الْكُعُوبِ إِذَا كَانَتْ كُعُوبُهُ صُلْبَةً قَوِيَّةً مُمْتَلِئَةً‏.‏